تركيا والبريكس- تحولات جيوسياسية واقتصادية في نظام عالمي جديد

في تحرك لافت، شاركت تركيا، جنبًا إلى جنب مع 14 دولة أخرى مدعوة، في اجتماع وزراء خارجية مجموعة دول "البريكس" الذي استضافته روسيا مؤخرًا.
وقد قاد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، وفد بلاده في هذه الاجتماعات الهامة. وقبل هذه الزيارة، وخلال تواجده في الصين مطلع شهر يونيو/ حزيران الجاري، أعلن فيدان صراحة عن تطلع أنقرة للانضمام إلى هذا التكتل الاقتصادي ذي الثقل المتزايد. هذه الرغبة التركية أعادت إلى الواجهة هذا الملف بكل ما يحمله من أبعاد جيوسياسية واقتصادية وأمنية متشابكة.
هذا التوجه التركي الجديد نحو "البريكس" يمثل إحياء لرغبة قديمة كان قد صرح بها الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2018، ولكنها لم تلقَ صدى كافيًا في حينه وطواها النسيان.
ولا يمكن النظر إلى هذا التحول في السياسة الخارجية التركية بمعزل عن التصريحات التي أدلى بها فيدان خلال زيارته لبكين، والتي تناولت العلاقات الثنائية بين البلدين، والدور المحوري الذي تتوقعه تركيا من الصين في صياغة نظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازنًا.
إن هذا التلاقي بين الدوافع الاقتصادية والمبادئ الجيوسياسية هو الذي يتيح لنا فهمًا أعمق لهذا التوجه التركي المستجد. فمن الجدير بالذكر أن هناك دولًا أخرى قد سبقت تركيا في التعبير عن رغبتها في الانضمام إلى "البريكس"، وهو تجمع اقتصادي يضم اقتصادات تتجاوز قيمتها الإجمالية 28.5 تريليون دولار، أي ما يقارب 28% من حجم الاقتصاد العالمي.
إعادة تشكيل النظام العالمي
تتبنى تركيا رؤية مفادها أن النظام العالمي القائم قد استنفد صلاحيته ومبررات استمراره. فمنذ سنوات، يدعو الرئيس أردوغان إلى إجراء إصلاحات جوهرية في المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، من خلال زيادة عدد الدول الأعضاء الدائمين فيه، رافعًا شعارًا مدويًا: "العالم أكبر من خمسة".
وفي ذروة أزمة كورونا، أكد أردوغان أن العالم سيشهد بزوغ فجر نظام عالمي جديد ما بعد الجائحة، وذلك قبل أن تتفاقم الأوضاع مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، والعدوان الإسرائيلي المستمر على غزة.
وفي بكين، جدد فيدان التأكيد على هذه الرؤية، قائلًا: "إن الجنوب العالمي، الذي يضم دولًا ذات حكومات وخلفيات تاريخية متنوعة، يعاني من نقص التمثيل في النظام العالمي بما لا يتناسب مع حجمه ومكانته".
من هذا المنطلق، تأمل تركيا في أن تضطلع الصين بدور حاسم في إرساء دعائم هذا النظام الجديد، بعيدًا عن الهيمنة الأميركية التي أفرزت فوضى عارمة لا يمكن إنكارها.
وفي هذا السياق، يمكن تفسير الانتقاد الضمني الذي وجهه فيدان لتلك الهيمنة "دون الإشارة صراحة إلى الولايات المتحدة"، وذلك من خلال تأكيده على ضرورة الحفاظ على استقرار الصين ووحدتها وسلامة أراضيها. كما رفض الإجراءات الاقتصادية الأميركية الاستثنائية المفروضة على الصين، مشددًا على أنه "ليس من الصواب عرقلة التنمية الاقتصادية في الصين".
إن علاقة التحالف الوطيدة التي تجمع بين واشنطن وأنقرة لم تمنع الأخيرة من إدراك أن الهيمنة الأحادية القطبية التي سادت العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قد أدت إلى خسائر جمة وعميقة. وترى تركيا أن الوقت قد حان للدفع باتجاه نظام عالمي متعدد الأقطاب.
من هنا، تعتبر تركيا "البريكس" بمثابة بوابة مهمة للانخراط في نشاط اقتصادي جماعي مع محور روسيا – الصين، الذي يمتلك إمكانات هائلة وقدرات متنامية، خاصة في قطاع الطاقة الحيوي.
بالإضافة إلى ذلك، تدرك أنقرة أن تعزيز التعاون الثنائي مع بكين يبدأ من الجانب الاقتصادي. وفي هذا الصدد، أشار فيدان إلى ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة في مشروع "الممر الأوسط"، ومبادرة "الحزام والطريق"، بالتوازي مع التطورات الجارية في ممرات النقل الأخرى، مثل طريق التنمية الذي يتم تنفيذه بالتعاون مع العراق.
كما دعا الشركات الصينية، وخاصة تلك العاملة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، إلى الاستثمار في تركيا للاستفادة من موقعها الاستراتيجي الذي يتيح الوصول إلى أسواق أوروبا والشرق الأوسط.
حضور الملفّ الفلسطيني
إن تأثير حرب غزة على إعادة توجيه دفة السياسة الخارجية التركية كان جليًا في تحركات أنقرة داخل منظمة التعاون الإسلامي، وفي علاقاتها مع الولايات المتحدة، وصولًا إلى الإجراءات العقابية الاقتصادية التي اتخذتها ضد إسرائيل.
لذا، كان الملف الفلسطيني حاضرًا بقوة في زيارة فيدان للصين، حيث أكد أن "حساسية الصين تجاه القضية الفلسطينية أمر بالغ الأهمية، وأن أنقرة تثمن تضامن بكين مع الفلسطينيين ودعمها الراسخ لحل الدولتين في الشرق الأوسط".
كما دعا الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى "عقد مؤتمر سلام دولي شامل ومختص وفعال للتوصل إلى حل عادل ودائم في فلسطين".
الاستعداد لتطوّرات الحرب الأوكرانية
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، انتهجت تركيا سياسة متوازنة تجاه الطرفين، حيث رفضت فرض عقوبات على روسيا، وفي الوقت نفسه نددت بالعملية العسكرية ضد أوكرانيا وقدمت الدعم للجيش الأوكراني من خلال تزويده بالعديد من الصناعات الدفاعية.
وقد أتاحت هذه السياسة لتركيا القيام بأدوار إيجابية، حيث نجحت في إطلاق مبادرة ممر الحبوب في شهر يوليو/ تموز 2022 بالتعاون مع أطراف النزاع والأمم المتحدة.
كما تمكنت تركيا من حث روسيا وأوكرانيا على توقيع اتفاق لإنهاء الحرب، قبل أن تنسحب كييف منه تحت ضغط أميركي – بريطاني.
إلا أن ثمة تطورات خطيرة تلوح في الأفق، تتمثل في انخراط أوسع لحلف شمال الأطلسي "الناتو" في هذه الحرب.
فالاجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية الحلف الذي عُقد مؤخرًا في العاصمة التشيكية براغ، كشف عن عزم دول الحلف على زيادة دعمها العسكري لأوكرانيا كمًا ونوعًا، الأمر الذي قد يضع الحلف في مواجهة مباشرة مع روسيا.
وقد حذر فيدان من هذا السيناريو عقب انتهاء الاجتماعات، مؤكدًا أن تركيا لا ترغب في أي مواجهة بين "الناتو" وروسيا، حيث تدرك أنقرة أن مواجهة من هذا القبيل قد تضعها في صراع مباشر مع روسيا، وهو الأمر الذي تسعى جاهدة لتجنبه.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة التلغراف في 4 يونيو/ حزيران الجاري، فإن الحلف يعمل على توفير ممرات برية لنقل القوات والمعدات الأميركية إلى شرق أوروبا، في حال اندلاع مواجهات برية روسية – أوروبية.
وأشار التقرير إلى أن الاستعدادات قد أسفرت عن تحديد خمسة ممرات، من بينها ممر يبدأ من تركيا، ثم بلغاريا وصولًا إلى رومانيا، مما يعني انغماسًا أعمق في الحرب، وهو ما لا تريده تركيا.
لذا، أعاد فيدان خلال زيارته للصين التأكيد على ثوابت الإستراتيجية التركية بشأن الأزمة: "على الرغم من ابتعاد البلدين عن سياسة العقوبات ضد روسيا، فإنهما يؤكدان على سيادة البلدين (روسيا وأوكرانيا) وسلامتهما الإقليمية".
بمعنى آخر، لا توجد عقوبات تركية متوقعة ضد روسيا، ولا انخراط في أي عمل يمس بسيادتها وسلامة أراضيها.
إلا أن تحقيق هذه الإستراتيجية المتوازنة ليس بالأمر الهين بالنسبة لدولة مثل تركيا التي تمتلك ثاني أكبر قوة برية في حلف "الناتو"، والذي يتوقع منها مساهمة أكبر في المواجهة المرتقبة مع روسيا.
ومن هنا، فإن هذا التوجه الجديد من جانب أنقرة تجاه "البريكس" والصين قد يخفف من ردة الفعل الروسية تجاه تركيا، في حال تطورت الأزمة إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
وفي الختام، فإن الموقع الجغرافي الذي منح تركيا مزايا إستراتيجية جمة، فرض عليها أيضًا تحديات جسيمة نظرًا لوجودها في قلب منطقة مضطربة وملتهبة، الأمر الذي يستلزم منها إجراء مراجعات دورية وجادة لسياستها الخارجية.
